وآخر فصول هذا التنافس أن الولايات المتحدة تعتبر الرقائق من التقنيات الحيوية للأمن القومي؛ كونها تُستخدم في كل شيء من الهواتف الذكية إلى المعدات العسكرية، ما جعلها تفرض قيودًا على تصدير الرقائق المتقدمة والمعدات المستخدمة في تصنيعها إلى الصين بهدف إبطاء تطوير الصين لتكنولوجيا الرقائق المتقدمة، وفي الوقت ذاته فإن الصين تسعى لتحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال، وتطوير صناعتها المحلية للرقائق لتقليل اعتمادها على التكنولوجيا الأمريكية، معتبرةً أن هذه القيود تهدف للحد من صعودها كقوة تكنولوجية.
وبين الصورة والظلال، فإن الهدف الأمريكي شديد الوضوح، ألا وهو احتواء قوة عظمى قادمة، قبل أن تتمكن من فرض واقعها على العالم. مشهد النزاع هذا، وكل صدى متعلق به، يجري في القارة الصفراء وحدها، والعالم يراقب بقلق، خشية أن تتسبب الحسابات الخاطئة في تحويل هذا النزاع إلى عملية اصطفاف عالمية جديدة، وحروب تلد أخرى.
في مفهوم العلوم السياسية فإن محاولة دولة ما لتغيير النظام العالمي عائد إلى رغبتها في الحصول على نفوذ أكبر، باعتبار أن النظام الحالي لا يتواءم مع حجمها وقوتها. هذا هو الشعور الصيني الذي لم يعد يمكن إخفاؤه. إن آسيا هي الإجابة عن السؤال الكبير الذي يشغل العالم، وقد يتسبب في حرب عنيفة قد تغيّر شكل الأرض. ففيها يمكن حسم قوة الصين الحقيقية، أو محافظة أمريكا على وضعها الحالي. قارة تتصارع فيها قوى كامنة، وقوى تريد لنفسها مكانًا يليق بحجمها الذي وصلت إليه. وفي القارة الصفراء الإجابة المنتظرة عن مستقبل النظام العالمي بأكمله، فهي قارة سائلة، مليئة بالقوى المتحفزة للعب دور جديد.
إنك حين تنظر للنموذج الصيني وتسقط عليه ما يسمى في العلوم السياسية بأهم «عناصر قوة الدولة وبقائها» فستجدها موجودة بكل تفاصيلها في الدولة الصينية، فمن أهم علامات قوة أي دولة هو اقتصادها القوي حيث النمو مطرد، والإنتاج الصناعي عالٍ، والاحتياطات النقدية كبيرة. وبالتوازي مع ذلك قوة عسكرية واستقرار سياسي، ودبلوماسية فاعلة تسهم في زيادة النفوذ الدولي، والقدرة على التكيف مع الأزمات. وأيضًا البنية التحتية المتطورة، ونظام تعليمي وصحي متقدم، والتفوق في مجالات التكنولوجيا والبحث العلمي.
لذلك ترى أمريكا أن الصين أكثر خطورة من روسيا كونها تمثّل تحديًّا استراتيجيًّا طويل الأمد، بعكس روسيا التي تعتبر تهديدًا إقليميًّا لكن بقدرات اقتصادية أقل تأثيرًا عالميًّا. لقد خبرت أمريكا الملعب الروسي منذ أمد طويل. لكن الصين قصة أخرى أكثر تعقيدًا.
وتعتبر أمريكا الصين تهديدًا استراتيجيًّا أكبر من روسيا لأسباب عدة؛ فهي صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتطمح علنًا لأن تتجاوز الاقتصاد الأمريكي مما يمنحها نفوذًا عالميًّا كبيرًا. كما أنها تستثمر بكثافة في التكنولوجيا المتقدمة، مما يشكل تحديًّا للهيمنة الأمريكية في هذه المجالات. ويضاف إلى ذلك أن الصين تتبع سياسات توسعية، خصوصًا في آسيا (مثل بحر الصين الجنوبي)، وتسعى لتعزيز نفوذها عبر مبادرة «الحزام والطريق»، مما يهدّد مواقع النفوذ الأمريكي. كما أن قدرات الجيش الصيني العسكرية المتزايدة تثير قلق الولايات المتحدة، خصوصًا في منطقة المحيط الهادئ.
ولعل الباحث في العلاقات الدولية يستطيع أن يرصد بسهولة أهم علامات التنافس الصيني الأمريكي حيث تتصاعد النزاعات التجارية بين البلدين، ويحتدم التنافس على الهيمنة في مجالات التكنولوجيا المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، الجيل الخامس (5G)، وأشباه الموصلات. ومحاولات السيطرة الجيوسياسية تتزايد من خلال النزاع حول النفوذ في منطقة المحيط الهادئ، لا سيما في بحر الصين الجنوبي وتايوان. التنافس الواضح بين البلدين يتمثّل أيضًا في حرصهما المستمر على تطوير قدراتهما العسكرية والنووية، والبحث عن حلفاء جدد في كل مكان.
في آسيا فإن قصة التنافس تتخذ أشكالًا عدة، فبينما تسعى الصين لتعزيز نفوذها الاقتصادي من خلال مبادرة «الحزام والطريق»، فإن أمريكا تحاول احتواء هذا النفوذ عبر اتفاقيات تجارية مع حلفائها في المنطقة. وبينما توسع الصين وجودها العسكري في بحر الصين الجنوبي، فإن الولايات المتحدة تعزز تحالفاتها العسكرية مع اليابان، كوريا الجنوبية، وأستراليا.
ويزداد التنافس بشدة حول الهيمنة على التكنولوجيا المتقدمة، مثل الجيل الخامس (5G) والذكاء الاصطناعي، حيث تحاول أمريكا الحد من تقدم الشركات الصينية مثل هواوي، بزارعة الشوك في طريقها وسن التشريعات المجحفة. كما أن التنافس الصيني الأمريكي على النفوذ في مناطق مثل تايوان، بحر الصين الجنوبي، وشبه الجزيرة الكورية، حيث تدعم الولايات المتحدة حلفاءها وتعارض توسع النفوذ الصيني. وبينما تعزز الولايات المتحدة تحالفاتها مع دول مثل الهند، اليابان، وأستراليا (ضمن تحالف كواد)، تسعى الصين لتوسيع نفوذها في دول جنوب شرق آسيا وباكستان.
ورغم نفوذها الآسيوي القوي فإن الصين تواجه تعقيدات عدة مع جيرانها. مع الهند هنالك نزاعات حدودية في مناطق لداخ وأروناتشال براديش، وفي بحر الصين الجنوبي نزاعات مع دول جنوب شرق آسيا (فيتنام، الفلبين، ماليزيا، بروناي) حول السيادة على جزر ومناطق بحرية، حيث تدعي الصين ملكيتها لأغلب البحر. وكذلك الصين تعتبر تايوان جزءًا من أراضيها، بينما تعتبر تايوان نفسها دولة مستقلة، وهناك نزاع حول جزر سينكاكو/دياويو في بحر الصين الشرقي، حيث تدعي كل من الصين واليابان ملكيتهما للجزر.
وفي مواجهة هذا المشهد المتقلب فإن أمريكا تتحصّن بحلفاء مهمين في آسيا مثل اليابان والهند وكوريا الجنوبية والفلبين وتايوان. كتلة آسيوية مؤثرة، ومتنافرة ربما، لكن الخوف من طموح الصين يقلقها، ويوحدها.
وإلى البحر يتصاعد التنافس ويستمر، فالصين تسيطر على العديد من الموانئ البحرية حول العالم، سواء بشكل مباشر أو من خلال استثمارات في البنية التحتية عبر مبادرة «الحزام والطرق». كما أن لديها عددًا كبيراً من الموانئ الاستراتيجية الكبرى مثل ميناء شنغهاي (أكبر ميناء في العالم)، ميناء نينغبو-تشوشان، ميناء شنتشن، وميناء قوانغتشو. أما الموانئ الخارجية فمعروف أن الصين تستثمر وتدير موانئ عدة في آسيا، إفريقيا، أوروبا وأمريكا اللاتينية.
وتقدّر بعض الدراسات أن الصين لها نفوذ في أكثر من 100 ميناء حول العالم من خلال استثمارات مباشرة أو عقود تأجير طويلة الأجل، وهذا ما يجعلها دولة لها قول وفصل في ممرات التجارة العالمية، رغم أن ذلك التوسع البحري قد يبدو أكبر من قدرة الصين على الحفاظ عليه. على عكس منافسيها، ليس للصين تراث بحري عسكري يذكر، إذا ما قورنت ببريطانيا وأمريكا. سادة البحر الإنجليز لديهم بصمتهم في كل مكان منذ قرون، ومعارك بحرية مهمة، نظرًا لأن البحر كان وسيلة الوصل والاتصال الوحيدة لهم بالعالم في زمن مضى.
وفيما يعتقد كثيرون أن البحر سيكون هو نقطة ضعف الصين، وأفضل وسيلة لحصارها، فإن إغلاق المنافذ البحرية الآسيوية في وجه الصين من قبل الغرب سيكون معقدًا لأسباب عدة، من أهمها التعقيد الجغرافي ذلك أن الصين تمتلك العديد من الموانئ البحرية الهامة على سواحلها مثل شنغهاي وشنتشن، وهذه المنافذ لا يمكن إغلاقها إلا بوسائل عسكرية، وهو ما قد يؤدي إلى تصعيد كبير أو نزاع مسلح.
وكذلك الصين لاعب رئيسي في التجارة العالمية، وأي محاولة لعرقلة وصولها إلى الموانئ أو إغلاق المنافذ البحرية قد تؤثر سلبًا على الاقتصاد العالمي بأكمله، بما في ذلك الاقتصادات الغربية، والعالم ككل، فلا يمكن أن ننسى أن الصين هي مصنع العالم. ناهيك عن علاقاتها القوية مع دول آسيوية قد لا تتعاون مع الغرب في هذه الخطوة، فضلًا عن أن إغلاق هذه المنافذ قد يتعارض مع القوانين الدولية الخاصة بحرية الملاحة.
وبالمحصلة فإن الصين تُعتبر الدولة ذات النفوذ الأكبر في آسيا حاليًّا، وذلك لأسباب عدة؛ فلديها ثاني أكبر اقتصاد في العالم والأكبر في آسيا، مما يمنحها تأثيرًا كبيرًا على التجارة والاستثمار في المنطقة. كما أنها تمتلك جيشًا قويًّا، وتقوم بتوسيع قدراتها العسكرية، خاصة في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ، وهذا ما يجعل التحالف الأمريكي مع الهند واليابان ضروري للحد من النفوذ الصيني بكل الطرق والاتجاهات.
وفي مواجهة ذلك فإن الولايات المتحدة تمتلك العديد من القواعد العسكرية في آسيا، التي يقدر عددها بالعشرات، وتنتشر في دول رئيسية عدة، ففي اليابان وحدها يوجد حوالى 23 قاعدة عسكرية أمريكية، منها قواعد جوية وبحرية رئيسية مثل قاعدة يوكوسوكا البحرية وقاعدة كادينا الجوية في أوكيناوا. وفي كوريا الجنوبية توجد حوالى 15 قاعدة أمريكية، بما في ذلك قاعدة كامب همفريز، وهي واحدة من أكبر القواعد الأمريكية خارج الولايات المتحدة. وكذلك قواعد عسكرية أمريكية أقل عددًا في جزيرة غوام والفلبين وأستراليا وتايلند.
وإن كانت القوى تكاد تتقارب، والفجوة تضيق، إلا أن ما أسميه بـ «قوة البقاء» يرجح الكفة الأمريكية، على الأقل في المستقبل المنظور، نظرًا لتفوقها العسكري وقوة تحالفاتها، ومرونة نظامها السياسي الذي يمكنها من الثبات في عالم المتغيرين. كما أن النظام العالمي بشكله الحالي صناعة أمريكية بشكل مباشر أو غير مباشر، وازدهار العالم يتوقف على استقرار هذه القوة العظمى، وصيغتها الغربية لمفهوم العلاقات الدولية، التي قادت العالم، وتمكّنت من إسقاط كل مناوئيها.
0 تعليق