نشر الكاتب الصحفي خالد صلاح، منشور على صفحته الرسمية "فيسبوك"، بعنوان "دمج الدراما والفنون الإبداعية مع الصحافة الرقمية و صناعة الأخبار "، وجاء نص كالتالي:
ليست المشكلة أن الجمهور تغير ذوقه وطريقته في استهلاك المعلومات المشكلة أن الصحافة لم تتغير مع هذا الجمهور ولم تلاحق مزاجه المتطور، ولم تدرك طبائع الأجيال الجديدة وعلاقتها بالإعلام المؤسسي بوجه عام.
لسنوات طويلة، ظلت الصحافة ( ورقية أو الكترونية ) وفيه لقوالبها الموروثة : مقال مكتوب، تقرير مصور، نشرة أخبار صوتية أو متلفزة ، بث لايف لحدث كبير ، حوارات مطولة مع مشاهير أو أبطال لحدث مؤقت ، لكن ذلك الولاء لم يشفع لها أمام طوفان المحتوى الذي اجتاح المنصات، فصار الخبر الجاد يخفت أمام رقصة على تيك توك ، والتحقيق العميق يتوارى خلف ترند للعبة جديدة أو تحدي تافه على فيسبوك .
اليوم، لم تعد تلك القوالب قادرة على المنافسة ولم يعد للصحافة بريقها في عين القراء ، أو في ميزانيات المعلنين، فالمعلن هو مستهلك للمحتوى أيضاً .
ويدير ميزانيته حسب ما يشاهده ، وحسبما تشير أرقام الريتش واللايكات إليه على منصات السوشيال ميديا ، وحسبما توجهه لوغاريتمات فيسبوك ويوتيوب وتيك توك ، أنا قيمة الكلمة المكتوبة أو التحقيق الجاد فتتوه وسط في دهاليز هذه الفوضى ، ولا يبقى للصحف إلا الفتات .
ومن هنا، تتآكل المؤسسات الصحفية واحدة تلو الأخرى، وتدخل معظمها في أزمات مالية طاحنة، ليس لأنها فقدت المصداقية، بل لأنها فقدت اللغة التي يفهم بها الناس العالم من حولهم ، والسؤال الآن ، كيف يمكن أن نفكر في قوالب أكثر مرونة لصناعة الأخبار ، دون أن تفقد هذه الصناعة مكانتها وهيبتها ووقارها ومصداقيتها لدى الناس ؟ .
كيف تصبح صناعة الصحافة جذابة بدون ابتذال ، وشيقة بلا ميوعة ، وحاصدة للرتيش واللايكات دون هز وسط ومطاردة جنازات ؟.
الجواب عندي هو في جرأة اقتحام قوالب صحفية جديدة تصمد أمام تحديات الذكاء الاصطناعي ، وتنافس فيض المحتوى على المنصات ، ويتحقق هذا في اقتراحي بأن نقوم بتوسيع مفهوم الصحافة لتبني قوالب فنية جديدة ودمجها في صناعة الأخبار مثل الدراما القصيرة ، والأغنية ، والموشن جرافيك ، وأفلام الكارتون المبسطة التي نستخدمها في تقديم الأخبار الجادة ، وشرح ما وراء الخبر.
دمج الصحافة مع الدراما والفنون قد تكون مدخلاً إبداعياً نحو عصر جديد لصناعة الخبر .
لو فهمنا أن الناس لا تكتفي بالمعرفة، بل تطلب أن تشعر بها وأن القصة حين تُروى بلغة المشهد، تظلل أعمق أثراً من كل بيان أو بوست مكتوب أو مقال مطول .
تخيل معي مثلاً أن نقدم تغطية أزمة غلاء الأسعار عبر مشهد تمثيلي من بيت مصري حقيقي، بدلًا من تقرير جاف ، أو أن نروي مأساة التحرش من خلال مونودراما صوتية تمثل صوت الضحية ، أو أن نحكي قصة شهيد في مشهد بصري يتنقل بين لحظة الفقد، وأثر الغياب، والعدالة المؤجلة.
وتخيل مثلاً أننا نقدم نشرة أخبار رقمية من خلال مشهد درامي لأسرة صغيرة من أب وأم وثلاثة أولاد يتبادلون حديث شيق في الصباح أو المساء ونسمع كل الأخبار على لسان هذه الأسرة ، أو أن المقال التحليلي نسمعه في حدوتة يرويها جد مثقف لأحد أحفاده يومياً في قالب درامي شيق.
kaidiما أقدمه هنا من أمثلة هي مجرد تصورات أولية يمكن أن يتم دعمها وصقلها داخل كل غرفة أخبار بطرق أكثر عمقاً لتحقيق غاية جذب جمهور السوشيال ميديا إلى الأخبار الجادة مرة أخرى دون أن يشعر هذا الجمهور بالملل أو الرتابة والتكرار .
الدراما الطويلة أو القصيرة ليست خصمًا للصحافة، بل فرصة ذهبية أمامها في زمن الفيديو القصير، واللقطة التي تسبق المقال، يمكن للصحفي أن يتحول إلى كاتب مشهد، ويمكن للمعلومة أن تقدم في صورة، وصوت، وتمثيل، دون أن تفقد جوهرها الجاد أو معانيها العميقة .
للتبسيط أسأل حضراتكم ، من منكم يتذكر برنامج ( حياتي ) في التليفزيون المصري من تقديم القديرة ( فايزة واصف) ، حيث كانت تعيد تجسيد الجرائم ، أو المشكلات العاطفية في دراما قصيرة ، ثم تفتح الباب للتحليل والمناقشة ، فهذا البرنامج كان سباقا بالفكر التليفزيوني ، وما أدعو إليه اليوم يشبه هذا التوجه المبكر في الإعلام المصري في عصر ما قبل فوضى السوشيال ميديا ....
هناك تجارب أولية نحو هذا النهج في بعض المؤسسات الإعلامية الدولية ، وإن لم تكتمل بعد تحت العنوان الذي أدعو أنا إليه من ( دمج الدراما في صناعة الأخبار ) ...
واشنطن بوست مثلاً أعادت تمثيل تقرير مولر السياسي حول اختراق الانتخابات الأمريكية كمشاهد درامية على يوتيوب ، و BBC صنعت دراما حقيقية من ملفات صحفية، لتحقيقات استقصائية مثل مسلسل Three Girls حول الاستغلال الجنسي .
صحيح أنها تجارب غير مستمرة ، ولم يتم التعامل معها حتى الآن باعتبارها ( خط إنتاج جديد ) لكنها إرهاصات تشير إلى احتمالات ميلاد شئ ما ، ونحن أمامنا فرصة هنا في مصر ( للتجريب والإبداع ) .
وإذا فتحنا الباب نحو دمج الفنون في صناعة الأخبار فإن فضاء الإبداع سيتسع أكثر وبلا حدود ، ولن يقتصر على الدراما وحدها بل الأغنية، التي يمكن أن تحمل مضمونًا صحفيًا مثل “الراب السياسي”.
والـ”موشن جرافيك”، الذي يشرح قصة اقتصادية معقدة في دقيقة.
وإعادة تمثيل الأحداث الحقيقية (Reenactment)، الذي يجعل الجمهور يعايش الخبر، لا أن يسمعه في جمود ورصد معلوماتي جاف .
إغراء المعلنين بالمنتج الجديد
هذه المنتجات الجديدة ليست فقط أدوات للوصول إلى القراء في قوالب جديدة ، بل هي أيضاً منتجات إعلانية محتملة ، ومنتج جديد يمكن تقديمه للمعلنين لفتح أبواب أخرى لموارد المؤسسات الصحفية .
أريد في الختام التأكيد على حقيقتين :
الأولى : أنني لا أعلن موت الصحافة بقوالبها الحالية بل أبحث لها عن حياة جديدة من خلال منتج جديد .
الثانية : المهمة ليست سهلة لكنها ممكنة ، ولو بدأت كل غرفة أخبار حالية الاجتهاد بقوالب جديدة من الدراما أو الأغنية أو الكوميكس ، سيؤدي هذا ( الأداء التجريبي ) إلى تعظيم قدرتنا على إعادة خلق هذه الصناعة من جديد .
الصحافة المصرية من وراء القصد
0 تعليق