جمالياتُ التفسّخ والزوال في رواية "غيبة مي" لنجوى بركات - شوف 360 الإخباري

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
جمالياتُ التفسّخ والزوال في رواية "غيبة مي" لنجوى بركات - شوف 360 الإخباري, اليوم الاثنين 12 مايو 2025 08:10 صباحاً

تحلو لي قراءة الروايات الحديثة الصدور متأخراً قليلاً عن وقت صدورها، كثيراً ما أجدها تتحول إلى مناسبة للعرض مثل فُرجة، وللإخبار بها معلومةً، وتفسد القراءة العجلى مادتها بالاختزال. تحتاج الرواية الجديرة بنوعها أن تُقرأ مرّات وعن بُعد، وحبّذا لو جهلتَ مؤلفها، فتصبح علاقتك بالنص خالصةً لوجهه أو تكاد، إذ لن تقرأه معزولًا عن محيطه وشروط إنتاجه ومن ضمنها القواعد البانية له، كًتب بها أو خرقها بإبدال يؤهّله العمل لقراءة فاحصة ومنتجة.

هذا ما أملته عليّ بثقة رواية "غيبة مي" (دار الآداب، 2025) للبنانية نجوى بركات، لها سوابقُ سرديةٌ معلومة، أيقنت منها بواحدة "باص الأوادم" (2018)، لقدرتها على تجميع طباعٍ وشجونٍ وسيَرٍ وعلاقاتٍ ذاتيةٍ اجتماعيةٍ في كثافة فضاءٍ، وبسردٍ واقعيٍّ ذي رهافةٍ شعرية. من يتحكم في المكان، ويصنع بداخله فضاءَه الخاص يؤوي وتعيش فيه شخصيةٌ بفعلها في تشابكٍ مع محيطها وبمرمَى محددٍ أيًّا كان، فكيف إذا أتى وجوديّاً وبإيقاع تراجيدي، هو روائي؟

لا ينبغي أن نَمّلَّ من قول هذا في مقدماتِ فهمِنا وكتابتنا عن الرواية العربية التي استفحل كمُّها وهزُلَ مبناها وضَحَلَ معناها وتبدَد قصدها، لتصبح قولاً في غير ما لفنِّه وغرضِه تُكتب. هذا وعيٌ تستخلصه مبكِّراً من قراءة أولى لعمل نجوى بركات أرادته جمعاً لمفردها، ومفرداً ذاتياً، إذ ينحت ملامحها - شخصيتها العاملة - وبحثها (سعيها) يرسم بانوراما عالمٍ ينهار بانهيارها. هنا عليك أن تفهم أن لا رواية حقيقية ناضجة من دون رؤية للعالم تصدُر عنها وتجسِّدها.

بطبيعة الحال، توجد الحكاية، بل الحكايات، فالرواية تتحقق جنساً أدبيّا بصنع بنيتها السردية. ستأخذ منا بضعة أسطر لو اختصرناها من كتاب صفحاته 223. لا غنى عنه لاطلاع القارئ قبل الانتقال إلى المهم. في مذهب قراءة غيرِ بريئة ترى بثلاثة عيون. الأوليان الطبيعيتان تُفتحان على مشهد شقة في الطابق التاسع من عمارة ببيروت تعيش فيها امرأة في سنّ الرابعة والثمانين، أي أن وراءها سيرة طويلة في الحياة ملأى بالخبرات والتجارب وبمعيشٍ مكتنز.

 

رواية 'غيبة مي' لنجوى بركات. (دار الآداب)

رواية 'غيبة مي' لنجوى بركات. (دار الآداب)

kaidi

 

اختارت الكاتبة طرائق مختلفة للسرد. أن تبدأ من مشارف النهاية، من أفول الشخصية، بتساوقٍ وانسجامٍ تام مع أفول المدينة حيث تعيش. من هذه المشارف تمارس أربعَ إطلالاتٍ منتظمة في البداية: الأولى، من شرفة شقتها على العالم الخارجي معادلُة بيروت. الثانية، بتفقّد جنبات الشقة، من أصص الزرع، الصالون بأثاثه، غرفة النوم، الحمّام، المطبخ وجزئيات (ناطور العمارة يوسف من يؤدي لها خدمات عديدة، الوكيل من طرف إبنيها المهاجرين بالسهر عليها، الخ) إضافة إلى المستخدمة شاميلي التي تزورها أسبوعيّا لتحميمها وتنظيف الشقة. الرابعة نهاية المطاف الحاسمة، حين تؤوي إلى ذاتها فتستدرج ذكريات ماضيها الشخصية والعائلية، وبذا نتعرف إلى سيرتها، وكيف وصلت أو تدحرجت من أمس إلى اليوم، فهي في طور الهاوية؛ تستغرقها أسئلةٌ كبيرةٌ عن الحياة والوجود ذات طبيعة فلسفية عامة جزء منها إسقاط من المؤلفة لإلباس روايتها بُرداً فكريًّا يرقى بقصتها فوق مجرد مصير امرأة عجوز، وذلك بطريقة خليط بين المونولوغ الداخلي والصيغة التقريرية. هو مزجٌ مترنِّحُ ومتفاعلٌ، تارة، ومرتبك، أخرى، يتنقّل بين ذات (داخل) وموضوع (خارح) بالاسترجاع، وبفعالية بصرية.

هذه الإطلالات، المشارف، مقدماتٌ أولى لقصة أرادت لها مؤلفتها أن تتأشكل، فتصبح أكثر من أعراض ما يلحق بمن يتقدمون في السّن من عجزٍ وخَرفٍ وفقدانٍ للذاكرة، فتنتقل بالأحرى تستعيد خيط الاستهلال الذي قدمها في دوامة قلقٍ وتوجّسٍ من وجود دخيلٍ في شقتها إلى حدّ استدعاء المساعد يوسف إلى الشقة يبحث عن الغريب المفترض فلم يجد أحداً، إذ كيف سيعثر على شبح هو مي شخصيتها نفسُها، تستحضره لاحقاً امرأة تُجالسها وتروي لها حكايتها في شبابها، بنوع من التضعيف والطيّ، لقصة داخل قصة (la mise en abime) الذي تفوّق فيه أندري جيد في "Paludes" إلى جانب تجريب الميتا خطاب وهما متحققان معاً هنا. 

يتجسّد الشبحُ المفترض في صوتٍ سيسرد طويلاً الوجه، القسم الثاني، الخلفي، لشخصية ميّ، إبّان شبابها قبل ما بعد الثمانين، لا أجد بُدّاً من القول أنه شبه منفصلٍ عمّا سبقه، وقصة أخرى رُبطت بعُسر مع ما تقدمها يمكن أن تستقل بذاتها، فيما أرادتها الكاتبة أرضيةً صلبة عليها قام بناء سيرة الشخصية واستفحلت وحدثت زلازل حياتها. باختصارـ الشابة التي أهّلتها موهبتُها لاحتراف التمثيل والنجاح فوق الرّكح، والارتباط بشاب مخرج يبحث عن التعبير والشهرة ويتقمّص هيئة اليساري البوهيمي، ستعيش قصة حب عنيفة وشرسة بين مدٍّ وجَزر في مناخ بيروت ستينية فنية زاهرة. وتعرف أحداثاً بسيناريوهات ميلودرامية بطلتها دائماً ميّ تعاني عذابات مريعة من رفيقها تنتهي بمحاولتها حرقه وجراء ذلك إيداعها مستشفى المجانين، ثم بلوغها النهاية السعيدة (Happy End) بارتباطها بالطبيب المعالج الذي ستنجب منه توأمين لن تربيهما لإصابتها بالزهايمر سنوات. ثم وفاة الزوج المصادفة، وهجرة الولدين (الشبحين) إلى الخارج شأن كفاءات اللبنانيين أجمعين، وبقائها وحدها تُطلّ من شرفة شقتها في الطبقة السابعة على مدينتها بيروت تتدهور وتنهار بتواز مع انهيارها هي.

بذلت نجوى بركات جهداً حكائيّاً مسهباً لتختصر السيرة الوطنية والاجتماعية والسيكولوجية لبلد يعيش منذ خمسة عقود تراجيديا تفككه وانهياره المتواصل، والرواية اللبنانية سِجلٌّ واقعيٌّ تصعيدٌ لها لا تتفوق عليها أهوالًا وضراوةً بقدر ما تؤزِّمها في عُقد وحبكاتٍ وتمثيلات عُصابية. أجد في ما سردته وشخصته، تخيلنته (من التخييل) نجوى بركات في روايتها الأخيرة نهاية جناز (requiem) طال واستطال فلا توجد رواية عربية يتوحّد فيها مصير  الإنسان ومساره والمكان مثل اللبنانية، وإن كانت المأسوية روحاً شعرية أولاً، لذلك يأتي سردها متفاوتاً، مُذوّتاً بشدة وجريحاً، مدموغاً بملامح كتابه تسحبه إلى ناحية التخييل الذاتي أكثر من مقتضى السرد الموضوعي. في هذه الرواية جمعت بركات الأشلاء وكتبت بالرِّمم، ووحّدت البديع بالشنيع، القبح بالجمال، وأوصلت مدينتها، وحيوات ناسها، ومعضلات وجودهم وجودها، بعد تلكؤ، وتذبذب، بين سيناريوهات وأوهام بإمكان البقاء، إلى حتمية الفناء والمحو النهائي، فقدان الذاكرة والإيداع في مستشفى الأمراض العقلية. جو طبع كتابة العمل، تفككُ بعض أوصاله وتجاور حتى تنافر طرائق سرده، مع تعدد الخطابات وتضاربها، وإجمالًا فسيفساؤه النصية المصنوعة بقطع وخطوط وألوان ليست منسجمة دائمًا عندي انعكاس لواقع نسقُه هو التفسخ، وإن عاند للبقاء فإنه فقد الروح وذهب إلى الزوال مثل غادرت ميّ بأبّهة.

في تاريخ الرواية ثمة مراحلُ مفصلية، مكوناتُها الزمن، وتطور المدنيّة، وتغيُر الصراع، وأزماتُ الإنسان الفرد وأحلامه ومطامحه وخيباته، وأساليب تلتقي في تركيب رؤية العالم ووعي الذات، بل ينبغي، وهذا ما يدفع الرواية نحو التطور والتحول، حين تصل إلى ذروة ما ونفاد الزاد. أختصر لأقول، بعد "غيبة مي" ينبغي لكتاب الرواية في لبنان أن يبحثوا عن مادة أخرى وتخييل مختلف، وإلا فلن يكتبوا، هم وعربٌ آخرون، إلا التكرار كما يفعل أكثر من واحد بملل وإسفاف عقيمين ومضجرين، ولا يفيد الضجيج وعجيج المناسبات. لو لم يكن لرواية نجوى بركات إلا التنبيه الى هذا وحده لعُدّت ذات فضل عظيم، وضرورية؛ وإنها لكذلك.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق