نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
في حديث الشعر (12) - شوف 360 الإخباري, اليوم الثلاثاء 27 مايو 2025 11:05 صباحاً
في الحلقة السابقة (11) ذكرتُ أَهميةَ الإِيقاع في الشعر. فانعدام الإِيقاع قد يَصلُح للنثر، في بعض مستوياته الضعيفة، إِنما لا شعر من دون إِيقاع واضح نافر لا يبحث عنه السامع والقارئ بل يفرض ذاته عليهما.
في هذه الحلقة أُتابع البحث في أَهمية الإِيقاع، وأَهمية تركيب القصيدة كي ترقى الى مستوى الشعر الخالد على الزمان، وفي المقاربات التي تجعل من الشعر شعرًا، لا استغلال التسمية لتمرير نصوص هي من النثْر في أَدناه، ولا يمكن أَبدًا أَن تكون في مقْدِس الشعر.
الشاعر مهندس إِيقاع
سِرُّ الإِيقاع في بساطته. وهي البساطةُ التي تَهُزّ. الأُمُّ لا تأْتِي وليدَها بالجديد: تُهَدْهِدُهُ بإِيقاعٍ معروفٍ يُطرِبُه فيغفو. كان الشاعر الفرنسي بول فرلين يقول: الموسيقى في البشعر وإِلَّا فهو من النثْر.
هكذا، بين النغَم والصورة واختيار كلماتٍ تتجانَبُ بِتِقْنِيَةٍ واعيةٍ جَماليةٍ حاذقة، يكون الشاعرُ الشاعرُ مهندسَ إِيقاعٍ موسيقيٍّ بارعًا، وملوِّنًا ساحرًا، ونَحَّاتًا ذوَّاقة، يَغْنَم من جميع الفنون والحِرَف. وهو قد لا يكون مُلِمًّا بِحذاقة الأَقدمين كلِّها، لكنه يعرف منهم الفِلَذَ الجميلةَ في شعرهم ويعرف قواعِدَها، فيَغْنى بِها و ربما يأْتِي بأَجملَ منها. قد تَخطر له، خلال كتابَتِه، مفرداتٌ وصيَغٌ متعدِّدةٌ في بيت واحد من القصيدة، وعندئذٍ - بِحذاقة الصَناع وبراعة الجوهريّ ودقَّة الصيدلِيّ وذوق العطَّار- عليه أَن يَختارَ منها ما يَجْمُلُ وضعُهُ في بيت القصيدة ذاك. وهذا ما لا يستطيعه المقصِّرون، فيَروحون يَخترعون تنظيراتٍ واهيةً تُبَرِّر تَفَلُّتَهم من الأُصول والقواعد والنُظُم، لأَنَّهم يستسهلون كسْر الأُصول في الكتابة، ولا يتجرَّأُون (أَو هُم لا يقدرون) على الخوض في الأُصول، بالصعوبة التي منها وحدها يولَدُ الإِبداع الخالِد على الزمان. إِن الاستسهال لم يولِّد يومًا فنًّا عبقريًّا.

دوغا: كتَب أَفكارًا لم تُنتِج شعرًا
المرساة الضرورية
على كلِّ عملٍ فني أَن تكونَ فيه ملامحُ كلاسيكيةٌ لضبْطِه بتوازُنٍ ضروريٍّ، من خلال مرساةٍ ثابِتَةٍ بانتظام عقليِّ وضوابطَ متعارَفٍ عليها، وإِلَّا تَجْمَحُ القصيدة، وتُفْلِتُ من قدرة الشاعر حتى لا يعودَ ربَّانَها، فتغرَق ومعها يَغْرق الشاعر وقرَّاؤُه. إِنَّ الانفلات الأَهوَج يؤَدِّي إِلى الضياع في النَوّ بين اللُجَج القاتلة.
وإِذا الشعر عملٌ فنيٌّ حاذقٌ وراءَه صنيع فنيٌّ حاذق، فالشاعر الشاعرُ هو مَن يعرف كيف يَعتمد جَماليا الكلمة وإِيحاءاتِها وإِبداعيَّتها. إِنَّ الفكرة موجودةٌ لكل الناس. المهمّ معرفة اختيارها: بأَيِّ شكلٍ وأَيِّ لباس.
kaidi

مالارميه: الشعر ليس أَفكارًا بل كلمات
الرؤْيا لا الموضوع
الشِّعر رؤْيا؟ صحيح. والقصيدة ليست "ما هو الموضوع؟" بل "ما هي الرؤْيا"؟. المُهمّ ترجَمةُ هذه الرؤْيا وإِيصالُها إِلى الناس واضحةً بالصورة التي التقطها الشاعر في هنيهات رؤْياه.
هكذا يكون الشعر حاجةً يُعاد إليها فسحةَ تنفُّس حين يتأَكْسَد الهواء. وليست مصادَفَةً أَن يقول البابا بولس السادس: "نحنُ في حاجة مستمرَّة لا إِلى علماء وفلاسفة، بل إِلى شعراء".
الحالةُ الإِنسانية واحدة. والامتداداتُ في الشعور الإِنساني واحدة. وهي تتوحَّد في الشُمولية. وأَكثر: الكلماتُ هي هي، مطروحة أَمام جَميع الشُعراء (كما النوتات الموسيقية السبْع هي هي، مطروحة أَمام جَميع الموسيقيين). المهمّ: كيف كلُّ شاعرٍ يتناولُ هذه الكلمات في انتظامٍ عبقريّ، وكيف منها يُرَكِّبُ العبارة ليعبِّر (أَكثر وأَوضح وأَجمل) عن الحالة التي يَحياها. في اللغة كلماتٌ تصلح للنثر، ولا يُمكن أَن تدخل في الشعر، كما فيها كلمات شعريةٌ رائعة لا تصلح في مقال سياسيّ أَو علميّ أَو تكنولوجيّ. وحتى في الشعر نفسه، كلامٌ من زنبقٍ يقال في الحبيبة، وكلامٌ من نار يقال في الوطن، ولا يَجوز الخلط بينهما.
بول فرلين: الشعر موسيقى. وإِلَّا فهو نثر
لا الأَفكار بل الكلمات
الشاعرَ سيِّدُ الكلمات والأَشكال. ذات يومٍ كان الرسَّام دوغا جالسًا مع الشاعر مالارميه في أَحد مقاهي باريس. قال دوغا: "مساءَ أَمس، كتبْتُ أَفكارًا جميلةً في نصٍّ اكتشفتُ عند كتابته أَنه لَم يَخرج، كما شئْتُهُ، شِعرًا". فأَجاب مالارميه: "الشعر ليس أَفكارًا. إِنّه كلمات".
من هنا لا يَجوز (بِاسْم التجديد و"الحداثة") انتهاكُ قِيَمٍ راسخةٍ تضْمن خلود الشعر، وإِلَّا تَفَتَّتَت القصيدةُ مع الزمن واندثَرَت، كما تَتَفَتَّتُ أَلوانُ اللوحةِ إِذا لَم يُؤَسِّس الرسام لقماشته وَفْق الأُصول.
هل مَحدودية مساحة القماش تقيِّد عبقرية الرسام؟ وهل المادة اللونية تَحُدُّ من إِبداعيّته؟ أَبدًا.
وهكذا الأُصول: التقيُّدُ بِها يَحمي الأَثَر الفنّيّ من الاندثار، وإِهمالُها يَجعلُهُ عرضةً للتفتُّت مع الزمن.
وهو هذا رأْيُ أَمين نَخلة في الإِبداع إِنَّ "الفنَّ يَموت في الحرية، ولا يعيش ويَخْلُد إِلَّا في التَشَدُّد".
0 تعليق