كانّ 78 - "حادث بسيط": جردة حساب سياسية وأخلاقية - شوف 360 الإخباري

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
كانّ 78 - "حادث بسيط": جردة حساب سياسية وأخلاقية - شوف 360 الإخباري, اليوم الأحد 25 مايو 2025 04:35 مساءً

“حادث بسيط“ لجعفر بناهي، الفائز بـ“سعفة“ مهرجان كانّ 78، يبدأ، كما يوحي عنوانه، من لحظة لا قيمة لها: حادث سير بسيط تتعرض له سيارة، يصطدم سائقها بكلب، لكن ما يبدو عرضياً يتحوّل سريعاً إلى شرارة تفتح بوابة الماضي. فالرجل الذي كان خلف المقود (إبرهيم عزيزي) ليس إلا أحد الجلادين السابقين لدى النظام الإيراني، حارب في سوريا دفاعاً عن "مقدّساته"، رجل ترك خلفه سلسلة من الأجساد المعذّبة والندوب النفسية، من بينها ندوب وحيد (وحيد مبصري)، الذي سيلقي القبض عليه. سنوات من الصبر تنتهي بلحظة مواجهة غير متوقّعة. الضحية يلقي القبض على جلاده، وبدافع من الغضب المكبوت، يحاول دفنه حياً، لكنه يتردد. هل هو متأكّد من هوية هذا الرجل؟ هل في إمكانه أن يُسلّم ضميره لقرار مصيري بناءً على شكّ؟ هكذا سيبدأ رحلة للتحقّق من الحقيقة، حيث يستدعي عدداً من الضحايا، من السجناء السابقين والمعارضين الذين نالوا نصيبهم من التعذيب، ليتأكّد من أن الجلاد الذي في قبضته هو ذاته الذي نكّل بهم. وحين يتأكّد الجميع من هويته، لا يطلبون منه سوى الاعتراف. ولكن، هل حقّاً هذا ما يريدونه؟ أم أن تحت هذا الطلب البسيط، طبقات من الأسئلة المرتبطة بالعدالة والكرامة والشفاء، وربما حتى الانتقام؟

الفيلم ليس مجرد سرد لحكاية مواجهة بين ضحية وجلاد. إنه بحث كثيف في معنى العدالة، في هشاشة الحقيقة، وفي المسافة بين الألم الشخصي والمساءلة الجماعية. الحادثة العابرة تصبح مدخلاً إلى "جردة حساب" سياسية وأخلاقية، حيث يمتنع بناهي عن الأجوبة، طارحاً أسئلة تزداد ثقلاً مع تقدّم الأحداث وتعقيدها أكثر فأكثر.

هكذا، يكتب بناهي، من خلال هذا العمل، أشبه بوصيته السينمائية. رغم كلّ ما عاناه من ظلم وقمع، يقارب مسألة الديكتاتورية بهدوء، وبنزاهة فكرية تسعى إلى الفصل بين الجريمة والمجرم، من دون الوقوع في التبسيط. كما يمرّر تساؤلات عن الفساد والانقسام داخل المجتمع وانهيار الثقة، وحتى عن العجز الجماعي في توحيد الصفوف، رغم وحدة الألم والمصير. فالعذاب المشترك، كما يلمّح بناهي، لا يكفي دائماً لتوحيد الإيرانيين.

لا يتوقّف الفيلم عند حدود إدانة السلطة القمعية، فهذا تحصيل حاصل، بل يتخطاها ليصوّب عدسته نحو مَن يتلقى هذا القمع، أي الضحايا أنفسهم. من خلال سلسلة من الحوارات المشحونة بينهم، يظهر بناهي أن لا موقفاً موحّداً في كيفية التعامل مع الجلاد، ولا إجماعاً على الكيفية التي يجب أن تُصفَّى فيها الحسابات. لكلٍّ من الضحايا نظرته، قناعاته، ومخاوفه التي تُملي عليه موقفه من الجلاد: هناك مَن يطالب بصرف النظر عنه، وآخر بالاعتراف، وثالث لا يحسم، ورابع يهاب أن يتحوّل إلى نسخة من جلاده.

 

جعفر بناهي خلال تسلّمه ”سعفة“ كانّ.

جعفر بناهي خلال تسلّمه ”سعفة“ كانّ.

 

kaidi

ببساطة شديدة، يطلق بناهي تحذيره: إياك أن تصبح وحشاً وأنت تحارب الوحوش. لا يقدّم هذا التحذير بوصفه شعاراً أخلاقياً مجرداً وباهتاً، إنما كمعضلة وجودية تمس كلّ إنسان. ففي لحظة معينة، يجد الضحية نفسه فجأةً في موقع القوة، والجلاد في موقع الضعف. فكيف سيتصرف؟ كيف سيتعامل مع هذه المفارقة القاسية؟ هنا يكمن جوهر الفيلم، في هذا السؤال المربك: ما الذي يميّزك عن الذي قهرك؟

من المؤكّد أن سنوات الاضطهاد التي عاشها بناهي منحته وقتاً كافياً للتفكير في هذه العلاقة بين القامع والمقموع. وليس من المصادفة أن يختار تحويل هذه التجربة إلى فيلم يتجاوز الحالة الإيرانية، ليطرح سؤالاً كونياً يتعلّق بالبشرية جمعاء: كيف نواجه الظلم من دون أن نعيد إنتاجه؟ كيف نطالب بالعدالة من دون أن نغرق في مستنقع الانتقام؟ ينطلق بناهي من هنا ليطرح سؤالاً أخلاقياً حول عبء الماضي الذي لا تصلحه أي عدالة انتقائية. فالماضي، كما يقول الفيلم ضمناً، لا يمكن استرجاعه ولا إصلاحه بالقصاص وحده، إنما بالبحث المستمر عن معنى إنساني وسط أنقاض الذاكرة.

كلّما توغّل الفيلم في مجراه السردي، تهاوت تدريجياً الحدود بين مَن في الأعلى ومَن في الأسفل. تتلاشى الفوارق بين الجلاد والضحية، وتغدو الأدوار قابلة للتبدّل، كأن بناهي يجرنا إلى سؤال خطير وجريء: هل الجلاد مجرّد صورة معكوسة عن الضحية؟ وهل هناك نقطة تلتقي فيها التجربتان؟

في مشهد ما قبل الختام، وهو مشهد تأسيسي يُعد من اللحظات الأكثر كثّافة في الفيلم، يقول بناهي كلّ شيء تقريباً عن إيران: ماضيها القريب، حاضرها، وربما عن مآلاتها المقبلة. لكنه لا يقول ذلك بلغة المواجهة والصدام، بل بلغة تشي برغبة في طيّ صفحة الضغينة. كأن الفيلم بأكمله دعوة إلى المصالحة، لا بمعناها السياسي الباهت، بل كموقف وجودي عميق من العالم، ومن الذات الجريحة.

ورغم غزارة المضامين التي من شأنها أن تُسحق في يد مخرج آخر، فإن بناهي يتعامل معها بخفّة أسلوبه المعتادة، مازجاً السخرية بالحكمة، ومستخرجاً الشعر من اللحظات التي لا يتوقّع فيها المتفرج شيئاً سوى الألم أو الترقّب. هنا، تتجلّى عبقريته في تحويل السينما إلى ما يشبه "فعل تنفّس". يخلق من لا شيء سينما كاملة تنبض بالحياة، وتبلغ ذروتها التعبيرية من داخل المحن والقيود.

الفيلم إيراني حتى العظم: شخصياته عادية لا يميّزها شيء في ظاهرها، الرهان فيه على الحوارات لا على الانفعال المصطنع، ديكوراته واقعية إلى حد التلاشي، والأحداث الكبرى تُستَبعد من مجال النظر لتبقى كامنة خلف الأبواب والنظرات والكلمات. لحظة عابرة، حادث سيارة تافه، تكفي لأن تفتح على جحيم داخلية، وتحمل في طيّاتها بلداً بأسره: نظامه، تاريخه، جراحه، وحتى فنّه.

يعرف بناهي توازنات بلده كما لا يعرفها أحد غيره، ويجيد محاصرة مجتمع بكامله ضمن حيز سينمائي. وإن كانت غالبية مشاهد الفيلم تدور في أماكن مفتوحة، إلا أن الإحساس الغالب هو أننا داخل بيئة خانقة. وهذه المفارقة ليست عَرضاً، إنما نتيجة حسّ مخرج يُتقن تحويل القيود إلى إمكانات جمالية تتجاوز فعل المقاومة إلى أداة جوهرية في صياغة إخراجية متقشّفة، شديدة القوة والتأثير.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق